نشأة صلاح الدين:
هاجر الأخوان نجم الدين أيوب وشيركوه من بغداد إلى الموصل حيث نزلا عند عماد الدين زنكي الذي رحب بالأخوين ترحيباً عظيماً، وأجرى عليهما المنح والعطايا، وما هذا الترحيب والإكرام إلا مكافأة على موقفهما المخلص من إنقاذهما له من القتل أو الأسر؛ ذلك لأن عماد الدين زنكي صاحب الموصل قد حارب السلجوقية عند "تكريت" أيام كان "بهروز" والياً على بغداد من قبل السلجوقيين، وسبق أن ذكرنا أن نجم الدين أيوب، وشيركوه كانا قائمين على تكريت وقلعتهما من قبل بهروز، وكان من نتيجة حرب عماد الدين للسلجوقيين أن انهزم جيشه أمام جيش السلطان السلجوقي، وفي أثناء انسحابه ورجوعه إلى الموصل مر بتكريت، أصبحت حياته هو وجيشه في يد نجم الدين أيوب والي تكريت يومئذ إن شاء أبقاهم أحياء، وإن شاء قتلهم، ففضل نجم الدين الإحسان على الإساءة فقام هو وأخوه شيركوه بمساعدة عماد الدين، وسهلا له أمر النجاة والسلامة حتى وصل إلى الموصل، فكان لهذه المعاملة الحسنة الموقف النبيل أكرم الأثر، وأحسن النتائج في بناء ملك أيوب، وإقامة مجد الإسلام على يد صلاح الدين([1]).
ولما وصل الرجلان إلى الموصل لقيهما عماد الدين بالترحاب، وجازاهما على ما صنعا معه من الجميل له في تكريت، فأقطعهما أرضاً ليعيشا عنده معززين مكرمين، وفي رحاب عماد الدين تطورت الأسرة الأيوبية، فقد أصبح نجم الدين وأخوة شيركوه من خيرة القادة، وقتل عماد الدين
بعد ذلك، وأصبح نور الدين صاحب اليد الطولي، وكان ذلك بمساعدة الأيوبيين، وستطاع أن يضم دمشق لملكه، وفي دمشق ترعرع صلاح الدين وتلقى علومه الإسلامية، ومارس فنون الفروسية والصيد والرمي بالسهام، وغيرها من ضرورات البطولة[2].
وعندما فتح نور الدين محمود زنكي بعلبك سنة (534هـ) ولى عليها نجم الدين أيوب، إلا أن صاحب دمشق مجير الدين قام بحصار نجم الدين أيوب في بعلبك، وكاتب نجم الدين نور الدين محمود، وسيف الدين غازي، وطلب منهم النجدة فاشتغلا عنه، وبعد حصار طويل تم الصلح بين الطرفين على حال، وانتقل إلى دمشق وصار من كبار أمرائها.
وهكذا عاش صلاح الدين طفولته الأولى في بعلبك سنة (534هـ/ 1140م)، وكان يشاهد ويسمع بين حين وآخر اعتداء الصليبيين على البلاد الإسلامية، ولما قام الصليبيون بالهجوم على سهل البقاع المجاور لبعلبك سنة (546هـ) تصدى لهم نجم الدين وأسد الدين شيركوه وهزماهم وأخذا منهم أسارا، وفي السنة نفسها التحق صلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين شيركوه[3].
وكان أسد الدين مرافقاً لنور الدين الذي تولى قيادة الزنكيين بعد مقتل والده، ويبدو أن نور الدين كان قد أدرك قدرات صلاح الدين العسكرية والإدارية، فقبله وأقطعه إقطاعاً حسناً، وعول عليه ونظر إليه، وقربه، وخصصه، ولم يزل يتقدم تقدماً تبدو عليه أسباب تقضي تقديمه إلى ما هو أعلى , وكان نور الدين يكلفه بالذهاب إلى عمه لاستشارته في قضايا تخص الدولة والمكوس، والضمانات، فقد كان نور الدين يهتم بمشاورة كبار قواده[4].
وأما كيفية تبوء صلاح الدين الأيوبي أعماله الرسمية فقد فصل لنا ابن الفرات ذلك بقوله: ولم يزل صلاح الدين في كنف والده حتى ترعرع، فلما تملك الملك العادل نور الدين دمشق لازم الأمير نجم الدين أيوب ولده يوسف بخدمته، وكانت مخايل السعادة على صلاح الدين لائحة، ومنه تعلم صلاح الدين طريق الخير، وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد حتى ظهر للسر مع عمه أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية، ولم يزل أسد الدين آمراً ناهياً بالديار المصرية، وابن أخيه صلاح الدين
يباشر الأمور بنفسه بكل عناية وحسن رأي وسياسة. وفي ولاية أبيه على بعلبك درس صلاح الدين العلوم الإسلامية، وفنون القاتل فضلاً عن فنون لعب الكرة والفروسية،وغيرها من فنون الطبقات الحاكمة، إلى جانب براعته في لعبة الجوكان، وهي لعبة رياضية أصلها شرقي يمارسها اللاعبون وهم على ظهور الخيل،فضلاً عن اهتمامه بالعلوم الدينية.
ويمكن القول: إن صلاح الدين نشأ وتربى بين أحضان أسرته، وأخذ عن أبيه نجم الدين براعته في السياسة، واكتسب من عمه شيركوه شجاعته في الحروب، فنشأ متشبعاً بالدهاء السياسي والروح الحربية، كما تعلم علوم عصره؛ فحفظ القرآن ودرس الفقه والحديث، وتتلمذ على أيدي كبار العلماء وأساتذة منطقة الشام والجزيرة؛ فهم الشيخ قطب الدين النيسابوري، وقد تأثر صلاح الدين بالسلطان نور الدين محمود الذي قدم النموذج الرائع للإخلاص المتفاني خاصة في محاربة يأخذ منها زاده القوي على الجهاد، وورث عنه قيادة المشروع الإسلامي، وتعلم منه كيفية التصدي للمد الشيعي الرافضي، والغزو الصليبي، وقد بينت ذلك مفصلاً في كتابي عن الدولة الزنكية وسيرة نور الدين محمود الشهيد[5].
متى بدأت الدولة الأيوبية؟
يختلف المؤرخون حول تاريخ ابتداء الدولة الأيوبية؛ فالبعض يجعله منذ تولي صلاح الدين الأيوبي الوزارة من الخليفة الفاطمي المعاضد لدين الله سنة (564هـ/ 1169م)، والبعض الآخر يجعله مع إعادة الخطبة في مصر للخليفة العباسي التي تلاها وفاة المعاضد لدين الله وانتهاء الخلافة الفاطمية (567هـ/ 1171م). صحيح أن سلطة صلاح الدين بدأت منذ توليه الوزارة ليدعمها بخطوة القضاء على الدولة الفاطمية، لكنه من الناحية الشرعية كان لا يزال تابعاً لسلطة نور الدين محمود الذي ما لبث أن توفي سنة (569هـ/ 1174م)، ولذلك فإن سنة الوفاة هذه هي برأينا تاريخ ابتداء الدولة الأيوبية التي اعترف بها الخليفة العباسي المستضيء بالله سنة (570هـ/ 1175م)[6].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق